الأحد، 28 نوفمبر 2010

نحو معالجة جادة ومدنية للمشكلة الأمازيغية في الدول المغاربية

نحو معالجة جادة ومدنية للمشكلة الأمازيغية في الدول المغاربية

لجمهورية الجزائرية
يتكون الشعب الجزائري من مجموعتين كبيرتين من السكان, المجموعة العربية والمجموعة الأمازيغية (القبائلية). وإذا كان الأمازيغ يعتبرون من أصل سكان هذه المنطقة, كما هو الحال في المغرب وتونس مثلا, فأن العرب نزحوا إليها, كما في حالة تونس والمغرب, مع الفتح الإسلامي الأول وفي فترات لاحقة, وبالتالي فهم يعيشون فيها منذ قرون أيضا. يسكن الأمازيغ في الجزائر في اختلاط واضح مع العرب في الكثير من مناطق البلاد, إلا أن لهم مناطق تقليدية تعيش فيها القبائل الأمازيغية, أو أن الأمازيغ يشكلون فيها غالبية سكانها.
وإذا كانت منطقة "تيزي وزو" موطن القبائل الأمازيغية الكبرى, فأن منطقة "بجاية" هي موطن القبائل الأمازيغية الصغرى. والاختلاف بين المنطقتين يبرز في محاولة إحداها القبول باعتبارهم عربا (الشاوية في بجاية), ورفض الأخرى ذلك وإصرارها الطبيعي على أمازيغيتها (تيزي وزو), والموقف الأخير لا يتضمن من حيث المبدأ أي عداء للعرب. إلا أن المشكلة بدأت تتخذ أبعاداً جديدة وأكثر تعقيداً عندما عمد العرب, ومعهم الشاوية, إلى تأكيد عروبة الجزائر ونفي الجانب الأمازيغي عنها, ومساندة القوى القومية خارج الجزائر لهذه الاتجاهات القومية العربية الشوفينية المتطرفة.
لم يواجه المجتمع الجزائري مشكلة تسمى الأمازيغية في أعقاب انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية. إذ كانت الأجواء الثورية وفرحة الانتصار باستعادة أرض الوطن كافية لأن تغطي على كل الإشكاليات الأخرى في ما عدا استقالة السيد حسين آيت أحمد من حزب جبهة التحرير وتشكيله جبهة القوى الاشتراكية في خريف عام 1963 بسبب دعوته للفكر الاشتراكي واختلافه مع حزب جبهة التحرير في هذا الشأن. ولكنها, كما يبدو اليوم, لم تكن خالية من الشعور بأن هناك محاولة من جانب الحكام الجدد, وكلهم من قادة جبهة التحرير الوطني, تجاوز الشعب الأمازيغي الذي ساهم بفعالية وحيوية كبيرتين في الثورة الجزائرية وقدم الكثير من التضحيات حتى في لغته الأمازيغية, من خلال طرح موضوعة أن الشعب الجزائري عربي ولغته عربية لا غير, في وقت كان السكان في الجزائر يمارسون الأحاديث فيما بينهم (أو يهدرون) باللهجة المحلية الجزائرية, رغم وجود مناطق كانت تتحدث الأمازيغية فقط وأخرى العربية الدارجة. وكان الشعار العام يدعو إلى الجزأرة في مواجهة هيمنة اللغة الفرنسية في خطاب المثقفين والمدينة. إذ كان الإنسان الجزائري قبل إحراز الاستقلال وبعده بفترة غير طويلة يرى في هويته أنه جزائري أولاً, ومسلم ثانياً وأمازيغي أو عربي ثالثاً, إضافة إلى كونه أفريقي ومتوسطي رابعاً. ولكن القضية اتخذت أبعادا جديدة عندما تلمس الأمازيغ (القبائل) إلى أن الحكومة الجزائرية وحزب جبهة التحرير وأجهزة الدولة بدأت تمارس أساليب شوفينية في التعامل مع القضية الأمازيغية لصالح اللغة العربية والعرب بشكل عام. ولعبت القوات المسلحة التي كانت تحكم البلاد فعلياً دوراً بارزاً في هذا الصدد. وبرز هذا الاتجاه واضحا في خطاب ألقاه السيد أحمد بن بللا رئيس الدولة الجزائرية حينذاك أثناء زيارة قام بها إلى تونس عندما أكد فيها على عروبة الجزائر المطلقة, وأن الملايين العشرة من الجزائريين هم عرب لا غير, أي نافياً بذلك وجود الشعب الأمازيغي. ولم تكن هذه السياسة حكيمة, بل كانت استمرارا للموقف الذي اتخذه مصالي الحاج إزاء الأمازيغ في حزبه قبل الثورة, حين أبعد الكثير من قادة وأعضاء الحزب منه بسبب كونهم من القبائل, واعتبرهم "جرثومة" تنخر في كيان الحزب, إذ كان الرجل يؤكد بشكل شوفيني أعمى على عروبة الجزائر وشعب الجزائر, وهو عربي من غرب الجزائر. وقاد هذا الصراع في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية في فترة ما بعد الثورة إلى ظاهرة غريبة حقا, إذ أهمل موضوع الجزأرة ليتحول إلى صراع بين التعريب والفرنسة, في وقت نسيت تماما اللغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية الأفريقية من جانب المسؤولين. وتشير الدراسات المتوفرة عن هذه المشكلة الإثنية في الجزائر إلى وجود تحالف بين العرب والشاوية, وهم من القبائل أيضاً, في مواجهة القبائل الأمازيغية الأخرى. وتجلى هذا التحالف على مستوى الحكم أيضا[9]. وتفاقمت المشكلة الأمازيغية فيما بعد بشكل ملموس وكبير بعد وفاة هواري بو مدين وتسلم الشاذلي بن جديد رئاسة الدولة ممثلاً للقوات المسلحة, علما بأن مطلب الأمازيغ لم يكن يتجاوز حينذاك الاعتراف بوجودهم كجزء حيوي من الشعب الجزائري والاعتراف بلغتهم باعتبارها لغة وطنية ولهم الحق الثابت بممارسة ثقافتهم الأمازيغية.
بعد انقلاب هواري بو مدين العسكري ضد رئيس الدولة أحمد بن بللا صدرت مجموعة من القوانين التي تلزم المسؤولين وأجهزة الدولة باستخدام اللغة العربية في معاملاتها وأختامها والتقارير التي تكتبها, رغم أن تطبيق تلك القرارات والقوانين لم يكن سهلا. كتب الباحث السيد عز الدين المناصرة بهذا الصدد مشيرا إلى دستور عام 1989, الذي قرر تعميم استعمال اللغة العربية في 16/1/1991, بأنه كان يعتمد في ذلك على "قوانين وأوامر سابقة تعود إلى عام 1966, ومنها الأمر المؤرخ بتاريخ 26/4/1968 المتضمن إجبارية معرفة اللغة الوطنية (ويعني العربي, ك. حبيب) على الموظفين, والأمر المؤرخ بتاريخ 19/2/1970 المتضمن وجوب استعمال اللغة العربية في تحرير وثائق الحالة المدنية. والأمر المؤرخ بتاريخ 10/1/1973, المتضمن تعريب الأختام الوطنية. والأمر المؤرخ 16/4/1976 المتضمن تنظيم التربية والتكوين والقانون المؤرخ بتاريخ 7/1/1984, المتضمن تخطيط مجموعة الدارسين في المنظومة التربوية والقانون الصادر بتاريخ 19/8/1986, المتضمن إنشاء المجمع الجزائري للغة العربية. وغيرها من الأوامر [التعليمات] والقوانين" [10]. ولم يكن الأمر مقتصرا على كثرة القوانين والنظم والتعليمات الصادرة بهذا الصدد فحسب, بل اقترن ذلك بثلاث ظواهر أخرى شكلت مجتمعة الاتجاهات العامة التي حركت الأجواء للمطالبة بتأمين التوازن المطلوب لصالح المجموعة السكانية الأمازيغية في مقابل المجموعة السكانية العربية والأمازيغية المستعربة. ويمكن الإشارة فيما يلي إلى تلك الظواهر:
• وضع الوظائف الحساسة والرئيسية في الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والحزب الحاكم بيد العرب أو المعربين, في حين كان نصيب الأمازيغ منها محدودا جدا, وهذا يعني ممارسة التمييز في هذا المجال بغض النظر عن التفسيرات التي تقدم بهذا الصدد والتي لا تصمد أمام حقائق الوضع في البلاد. ويمكن لهذا الغرض إيراد الكثير من الأمثلة. فعلى سبيل المثال لا الحصر أحتل (3) من العسكريين منصب وزير الدفاع في الجزائر في الفترة الواقعة بين عامي 1962 و1999 وهم جميعا من شرق البلاد, أي من المناطق المعربة أو التي تسكنها أغلبية عربية. وأن الفترة ذاتها عرفت سبعة شخصيات احتلت منصب رئيس الدولة (5) منهم من الشرق و(2) منهم من الغرب وهما أحمد بن بللا وعبد العزيز بو تفليقة, وتسلم 15 شخصية سياسية منصب رئيس الوزراء كان ثلاثة منهم من الغرب والبقية (9) من الشرق و(3) من الوسط. أما الأمانة العامة للحزب فقد كانت محصورة بالشرق في ما عدا مرتين أحتل المركز فيهما أحمد بن بللا وقايد أحمد وهما من الغرب [11] .
• التركيز على التعريب دون أية إشارة إلى ضرورة استخدام اللغة الأمازيغية والثقافة الأمازيغية في حياة البلاد الثقافية والإعلامية؛
• إغراق البلاد, وخاصة المؤسسات التعليمية ومؤسسات الدولة المختلفة ومشاريعها الاقتصادية وأجهزة الإعلام بالعرب القادمين من الشرق, حيث كانت مجموعة كبيرة منهم من القوميين الذين كانوا يرون ضرورة التعريب القسري على نطاق الجزائر كلها وبعيدا عن أي احترام حقيقي للأمازيغ واللغة والثقافة الأمازيغيتين ومتأثرين بالإسلام ولكنهم كانوا يربطون بصورة غير عقلانية بين الإسلام والعروبة متجسدة باللغة والقومية العربية. ورغم وجود قوى وأحزاب وشخصيات سياسية وطنية كانت ترى السلبية في هذه السياسة من منطلقين هما:
1. أن هذه السياسة تعبر عن غمط متعمد للحقوق واستفزازي إزاء السكان الأمازيغ وإزاء اللغة والثقافة الأمازيغيتين لا يمكن ولا يجوز السكوت عنها؛
2. ويمكن أه تقود هذه السياسة إلى تفكيك المجتمع الجزائري وإثارة النعرات القومية واللغوية فيه, في وقت يحتاج المجتمع إلى الحرية والديمقراطية والتلاحم والوحدة والتقدم.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى كل من حزب الطليعة الاشتراكية وجبهة القوى الاشتراكية وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية التي كانت في مقدمة القوى الداعية إلى ممارسة سياسة أكثر عقلانية وواقعية, إضافة إلى مشاركة بعض الشخصيات المعروفة مثل الكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين وغيره في هذه الوجهة الأكثر ديمقراطية وعدلاً إزاء الشعب الأمازيغي في الجزائر [12] .
في عام 1991 صدر قانون تعميم استعمال اللغة العربية استنادا إلى المادة الثالثة من دستور الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية التي نصت على ما يلي: "اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية" في الجزائر. ولم تكتف ديباجة الدستور بذلك بل أضافت إلى ذلك النص التالي: "ثالثا: أرض الجزائر, أرض الإسلام وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي الكبير وأرض عربية وبلاد متوسطية وأفريقية تعتز بإشعاع ثورتها, ثورة أول نوفمبر 1954" [13] .
وفي إطار هذا النص يلاحظ بوضوح أن المشرع, وهي الدولة, رفضت الأمازيغية لغة وثقافة, وأشاحت بوجهها عن الواقع الموضوعي القائم في الجزائر, وعن المشكلات المحتملة التي يمكن أن يثيرها هذا النص الناقص للهوية الجزائرية. فالهوية الجزائرية إلى جانب كل ذلك وقبل كل ذلك هي أمازيغية أرضاً وشعباً, وإغفالها لا يعبر إلا عن إصرار قومي شوفيني متعصب ضد الأمازيغية ودعوة لصهر الآمازيغ في العروبة دون رغبة وإرادة جزء كبير ومهم من بنات وأبناء الشعب الجزائري.
وفي مقابل هذه الوجهة تقدمت القوى الأخرى التي كانت ترى بأن على التشريع العقلاني أن يأخذ بالاعتبار وجود الشعب الأمازيغي إلى جانب الشعب العرب في الجزائر وأنهما معا يشكلان الشعب الجزائري, وبالتالي لا بد من الاعتراف بوجودهما معا. ومن هنا انبثق النص المقترح التالي من جانبها لتعديل الدستور الجزائري: "[العربية والأمازيغية لغتان وطنيتان, واللغة العربية هي اللغة الرسمية]", وهو مطلب مطابق تماما للمطلب المغربي في هذا الصدد. ومن المؤسف القول بأن هذا المطلب العادل والمشروع والأقل طموحاً من المعتاد لم يجد قبولا لسنوات طويلة. حتى بعد الموافقة على ذلك اصبح هذا الموقف متخلفاً إزاء تطور المطالب الأمازيغية العادلة. والغريب بالأمر أن القانون الذي صدر لينظم استعمال اللغة العربية تمت صياغته بطريقة تدعو إلى التساؤل المشروع التالي: هل كانت القوى التي وضعت هذا القانون تريد حقا إثارة المعركة ضد اللغة الأمازيغية ولصالح اللغة العربية, وبالتالي فتح صراع ونزاع قومي يضعف المجتمع الجزائري ووحدته الوطنية وينسى تاريخه النضالي المشترك ويتجاوز على أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية من خلال الاعتراف باللغتين الوطنيتين القائمتين فعلا في البلاد مع اعتبار اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجزائر؟
كل الدلائل تشير إلى أن هذا القانون ساهم في تعميق التناقض والصراع, بغض النظر عن حسن أو سوء نية المشرع, فالعبرة ليست بالنيات بل بالنتائج التي يتمخض عنها صدور مثل تلك القوانين. وغالباً ما انتهت تلك النوايا الحسنة, في أحسن الأحوال, إلى جهنم.
وإذا كان الصراع في السابق يدور بين الجزأرة والفرنسة, فأنه اليوم أصبح بين العربية والأمازيغية والفرنسية. وإذا كان الصراع في السابق لغوي وثقافي, فأنه أصبح اليوم سياسي صارخ. وهو واقع قائم يحتاج إلى معالجة موضوعية وعادلة وسريعة في آن لصالح القبول باللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية باعتبارهما لغتين رسميتين في البلاد, أو وفق ما يرتضيه السكان عموما, وليس وفق ما تريده الحكومة وحدها, إذ لا بد من الاعتراف الرسمي بالتكوين السكاني للجزائر. فالشعب الجزائري يتكون من مجموعتين إثنيتين كبيرتين هما المجموعة الأمازيغية والمجموعة العربية, وبالتالي فالتعامل مع هذه المسألة يفترض أن يستند إلى هذا الأساس الواقعي.
كتب الشيخ محفوظ نحناح, رئيس حركة مجتمع السلم الجزائرية (حمس) في كتابه الموسوم "الجزائر المنشودة … المعادلة المفقودة .. الإسلام, الوطنية, الديمقراطية حول الهوية الوطنية الجزائرية ما يلي: "فمقومات هويتنا وأبعادها محددة ومضبوطة ومعالم مرجعيتنا بينة ظاهرة إنها الإسلام أولا العربية ثانيا الأمازيغية ثالثا وبعدها التجارب أو القيم والمبادئ الإنسانية الخالدة والخيرة وأهمها العدل, الحرية, الشورى, العلم والعمل. هويتنا العرقية هي الأمازيغية البربرية التي تفاعلت بدخول العرب المسلمين وامتزجت بهم وقبلتهم وانصهرت معهم وحملت معهم رسالة ذات مضمون حضاري وإنساني هو الإسلام الذي يعترف الجميع بأن وعاءه هو اللغة العربية وفنونها وآدابها, وبهذا الوعاء ومحتواه الحضاري قفز هذا الشعب الجزائري لتسجيل موقعه المتميز في صف الأمة العربية الإسلامية كلغة ودين وكانتماء ذي بعد جغرافي وجيوستراتيجي متميز, ولم يحصل عبر التاريخ تصادم أو تضارب إلا ما يحصل بين أبناء الأمة الواحدة أو القبيلة الواحدة, ومثل هذا الأمر طبيعي في كل الشعوب والأمم, ويحدث بين جميع أصحاب الديانة الواحدة بل والمذهب الواحد, بل حتى بين أخوين شقيقين ينتميان لأم واحدة كما حصل بين قابيل وهابيل لهذا فأن محاولة إثارة النعرات بين أبناء أمازيغ وأبناء يعرب, كمحاولة إثارة أبناء أمازيغ على بعضهم, أو إثارة العربي على أخيه العربي, هدفها أن يهوي الجميع ويتشتت الشمل ليس إلا" [14] . ويلاحظ المرء في هذا الصدد جملة من الأفكار التي تعبر عن الرغبة أكثر مما تعبر عن واقع موضوعي ومن جانب واحد. ففي الوقت الذي يطرح بصواب كون الأمازيغية هي هوية الجزائريين من سكان البلد الأصليين, الذين يشكلون أكثرية السكان, فأنه يتبنى الدعوة أو الحكم بأن هذا الشعب قد انصهر بالعرب وأصبح جزءا من الشعب العربي أو الأمة العربية. وهي مسألة يمكن أن تنطبق على بعض القبائل الأمازيغية لا على أكثرية القبائل الأمازيغية التي ما تزال تعيش في الجزائر وترى إنها ليست عربية, بل أمازيغية, مع عدم الاختلاف على كونها تحمل ضمن هويتها الوطنية الإسلام كدين يؤمن به الأمازيغيون, كما أنهم لا يرفضون اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن. ولكن يفترض أن لا يجري الخلط بين الإسلام والعروبة, رغم كون العربية تعتبر اللغة التي خلق فيها القرآن. فليس جميع الأمازيغيين انصهروا بالعرب والقومية العربية, بل ما زالوا يحتفظون بهويتهم الأمازيغية. ولا يتعارض هذا الموقف مع إسلامهم ولا مع قبولهم اللغة العربية بجوار لغتهم الأمازيغية, أو قبولهم بالأدب والتراث العربي إلى جانب الأدب والتراث الأمازيغي. إن الطريقة التي يتعامل بها بعض القوى القومية من العرب وبعض القوى الإسلامية هي التي تثير الإشكاليات وتدفع الأمازيغيين إلى رفض الاطروحات العربية باعتبارها محاولة جادة تهدف إلى مصادرة أو استئصال هوية الآخر والادعاء بأن الهوية العربية هي هوية الجميع. ويأخذ الشيخ محفوظ نحناح على بعض الأمازيغيين دعواتهم المتطرفة صوب اللغة الفرنسية وبالضد من اللغة العربية. وإذا كانت انتقاداته صائبة في هذا المجال, فأنها في الواقع ليست سوى رد فعل لتصرفات القوميين العرب المتطرفين الذين ينكرون بإصرار حق الأمازيغيين بلغتهم وقوميتهم وثقافتهم الأمازيغية. ويفترض أن يكف القوميون العرب عن الإصرار والنزعة الشوفينية على صهر الأمازيغيين بالعروبة, إذ ليس من حق أحد أن يفرض الانصهار على الجماعات القومية الأخرى ما لم يتم ذلك بمحض إرادة ورغبة الناس أنفسهم, وهي مسألة مركزية في العلاقات بين القوميات والشعوب. ومع ذلك فأن الشيخ نحناح يخرج ببعض المطالب الصحيحة, رغم الطريق المعقد الذي يطرح فيه هذه القضية العادلة والبسيطة, حين يؤكد في نفس الكتاب على ما يلي: "1- ضرورة فتح كل المجالات أمام اللغة والثقافة الأمازيغية في ميدان التعليم والبحث وفي ميدان الاتصال والإعلام والعمل على ترقيتهما وتطويرهما بالشكل الذي يمكنهما من العودة السليمة إلى موقعهما الحضاري. 2- ضرورة التأكيد على أن إحياء وترقية اللغة الأمازيغية لا ينبغي أن يتصادم مع تعميم اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للدولة, …. 3- ضرورة الرفض بشكل حاسم وقاطع لأي دعوى للتمييز العرقي أو الإثني أو الجهوي بين أبناء الشعب أو بين مناطق وجهات الوطن" [15]. ولكنه يخطئ من جديد عندما يرفض أن تكون اللغة الأمازيغية رسمية أيضاً, ويخطئ مرة أخرى عندما يرى بأن تعدد القوميات واللغات أو الاعتراف بوجود إثنيات متعددة سيقود إلى صراعات ونزاعات وغيرها, إذ إن هذا ممكن فقط عندما لا يكون هناك اعتراف متبادل بالآخر واحترام له ولحقوقه ومحاولة فرض صورة الأنا عليه. ففي الوقت الذي يرى بأن الدول الكبرى هي التي تدعو إلى توسيع دائرة الإثنية وأحياء القوميات, يرى في الوقت نفسه ما يلي: "ولنتأمل مآلات مجتمع تتعدد فيه اللغات والثقافات وتستنفر فيه الخصائص الإثنية الفرعية, في مقابل محاور دولية كبرى .. - ثوران القلاقل والفتن والحروب الأهلية. -هيمنة الجوع والتخلف والمديونية. - ابتزاز الأموال والأرزاق واحتكار القوت…" [16] ومن هذا العرض يرى الشيخ نحناح إمكانية استغلال الدول الكبرى للتعدد القومي واللغوي ضد تلك المجتمعات المتعددة القوميات واللغات ولصالحها, وهو وجه واحد من القضية, إذ يمكن حقا وقوع حالة من التناحر بين القوميات المتعددة بسبب سياسات الحكم القائم فيها, أي الاستبداد والتجاوز على الحقوق والمصالح, في حين أنه لا يرى أو لا يريد أن يرى الوجه الآخر الممكن أيضا, وأعني به إمكانية التعاون والتنسيق والوحدة الوطنية التي يمكن إقامتها في المجتمع عندما تنتهج الحكومة القائمة سياسات تنسجم مع مبادئ المساواة والتضامن والتآخي بين القوميات, وعندما تستند إلى أسس الديمقراطية وحقوق الإنسان وعدم التمييز بين المواطنين لأي سبب كان وعندما تؤمن مستوى معين ومناسب من العدالة الاجتماعية. إنها مرتبطة أولا وقبل كل شيء بسياسة الدولة المعنية. وقد دللت السياسات التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في الجزائر, كما رأينا سابقا, على إنها لم تلعب دورا إيجابيا في تعزيز الوحدة الوطنية, بل عملت على تفكيكها وتشديد الصراعات المتنوعة في المجتمع. وسنوات العنف والعنف المضاد التي ما تزال مستمرة تجسد حقيقة تلك السياسة المعوجة والمضرة التي مارستها الحكومات المتعاقبة. واليوم لم يعد مطلب الأمازيغ الاعتراف باللغة والثقافة الأمازيغية فحسب, بل يمكن أن يتطور إلى الحكم الذاتي في إطار الجمهورية الجزائرية الديمقراطية. وليس في هذا المطلب من خطر على وحدة الجزائر, إن وافق الحكام على ذلك ومارسوا سياسة عقلانية في فهم حقوق الشعب الأمازيغي وعموم الشعب الجزائري. ويأمل الإنسان أن لا ينكر هؤلاء الحكام على الشعب حقوقه, وهو ما كان عليه الوضع في السابق وحتى الوقت الحاضر.

الجمهورية التونسية
ليس هناك ما يشير إلى وجود مشكلة أمازيغية في تونس حتى الآن. ولكن تطور الأوضاع في البلدين المجاورين, الجزائر والمغرب, في هذا الصدد من جهة, وغياب الحريات الديمقراطية والتجاوز الفظ على حقوق الإنسان في تونس واشتداد سياسة الهيمنة الفردية لرئيس الدولة التونسية من جهة أخرى, يمكن أن تفجر الأوضاع في تونس أيضاً وأن تبرز القضية الأمازيغية من جديد, وليس في ذلك أي ضير أو خطر بل مسألة طبيعية وإنسانية في آن, خاصة وأن الأصل الأمازيغي للغالبية العظمى من سكان تونس ما يزال معروفاً فيها.
ويمكن تجاوز احتمال تطور الوضع بهذا الاتجاه إن أمكن إرساء النظام السياسي التونسي على أسس من الديمقراطية المؤسسية وسيادة حقوق الإنسان في التعامل الفعلي لا في الوثائق التي تصدرها الدولة والوزارة الخاصة بحقوق الإنسان أو ما شاكل ذلك من مظاهر لا مضمون حقيقي لها أولاً, وأن أمكن تحسين مستوى حياة ومعيشة الغالبية العظمى من السكان وتقليص مستوى فجوة الدخل الراهنة ثانياً, ومعالجة المشكلة الأمازيغية بصورة عقلانية وإنسانية في البلدين الجارين ثالثاً, والاعتراف بالأصل والثقافة الأمازيغية في تونس ثالثاً. وهو ما ينتظره الإنسان, رغم أن اتجاه الأحداث يشير إلى إمعان الدولة في تونس باتجاه التناقض مع القوى المناضلة في سبيل الديمقراطية وحقوق الإنسان وإقرار وجود ثقافة أمازيغية سابقة ومتفاعلة مع الثقافة العربية. يفترض أن نشير بوضوح إلى أن الأوضاع المعيشية للسكان في تونس هي أفضل حالاً من حالتها في البلدين الجزائر والمغرب, رغم قلة الموارد الأولية المتوفرة في تونس بالقياس إلى البلدين الآخرين, كما أن حجم البطالة فيها اقل, إضافة إلى أن الهجرة منها إلى أوروبا وأمريكا الشمالية محدودة بالمقارنة مع البلدين. وأغلب المهاجرين منها سياسيين بسبب ملاحقتهم من قبل الدولة. ولا شك في أن العنف الذي مارسته بعض القوى الإسلامية السياسية الأصولية في الفترات السابقة وما يطرحها هذا التيار الفكري والسياسي من مشاريع الدولة الإسلامية السلفية والأصولية يساعد الحكومة على محاولة تبر سلوكها غير الديمقراطي إزاء هذه القوى على نحو خاص.

الجمهورية الليبية
تشكل القبائل الأمازيغية أصل سكان البلاد الليبية قبل دخول الإسلام إليها. وهي لا تختلف في ذلك عن سكان بقية مناطق شمال أفريقيا. ومع دخول الإسلام دخل العرب هذه البلاد. وكان العرب وما زالوا يشكلون الأقلية بالنسبة للسكان من أصل أمازيغي. إلا أن كثرة منهم قد تعربوا تدريجاً مع دخولهم الإسلام وبطرق وأساليب مختلفة. ولم تكن هذه العملية دون مقاومة.
إن ممارسة القوى القومية العربية في أعقاب الحرب العالمية الأولى من القرن العشرين وفي الفترات اللاحقة للحرب العالمية الثانية أساليب شوفينية إزاء القوميات الأخرى, ومنها السكان الأمازيغ, قد لعب دوراً ملموساً في بروز التوتر بين السكان الأصليين وبين السكان من أصل عربي. وحركت تلك السياسات مشاعر الكثير من الأمازيغ المعربين ليعودوا إلى جذورهم الأمازيغية, في حين راح بعض المستعربين الأمازيغ يمارسون أساليب لا تختلف عن أساليب القوميين الشوفينيين من أصل عربي. مما فجر صراعات جديدة بين السكان. وتشير أغلب الدراسات, بما فيها تلك التي أعدها قسم البحوث والدراسات التابع للجزيرة إلى أن عوامل كثيرة ساهمت في تنامي الشعور القومي الطبيعي لدى السكان الأمازيغ في ليبيا كما في الدول الأخرى كالجزائر والمغرب وتونس, والتي يمكن بلورتها بعدد منم النقاط المهمة:
1. رفض الاعتراف بوجود قومية أمازيغية كانت وما تزال تشكل جزءاً أساسياً وكبيراً من سكان البلاد. وهذا يعني بدوره رفض الاعتراف بوجود لغة وثقافة أمازيغية.
2. التبشير الاستفزازي وغير العقلاني بأن العرب هم سكان البلاد الأصليين وأن القومية العربية هي القومية الوحيدة الموجودة في البلاد, واللغة العربية والثقافة العربية تشكلان اللغة والثقافة الوحيدة في البلاد.
3. مناهج التربية والتدريس والإعلام كلها لا تتحدث عن وجود أمازيغ, بل تتحدث عن القومية والأمة العربية باعتبارها الوحيدة في البلاد. [17]
4. تعرض الأمازيغ إلى التمييز وإلى القمع والاضطهاد بسبب مطالبتهم بحقوقهم المشروعة.
5. اتهام المناضلين في سبيل حقوقهم المشروعة وكأنهم عملاء للإمبريالية العالمية لأنهم يدعون إلى حق الأمازيغ بممارسة حقوقهم وثقافتهم ودورهم في البلاد, وأنهم يشكلون مع العرب قوام سكان هذه البلاد. ومن تابع خطب معمر القذافي يدرك مدى الاستفزاز الذي تمارسه تلك الخطب الجوفاء والعدوانية لمشاعر الأمازيغيين الذين يناضلون في سبيل كامل حقوقهم المشروعة, باعتبارهم أصل سكان البلاد.
الخلاصة
إن الإشكاليات التي تعاني منها الدول المغاربية الأربع ليست واحدة ولكنها متقاربة كثيراً ومتطابقة في بعضها. وأبرز تلك المشكلات تكمن في طبيعة النظم السياسية غير الديمقراطية السائدة فيها وتجاوزها المستمر على حقوق الإنسان بشكل عام, وفي التوزيع وإعادة التوزيع غير العادلين وغير العقلانيين للثروة الوطنية في المجتمعات الثلاثة, وفي غمطها لحقوق وإرادة الشعب الأمازيغي الذي يشكل الغالبية العظمى من سكانه, وخاصة في كل من الجزائر والمغرب, إضافة إلى إشكاليات البطالة في البلدين الأخيرين وما ينشأ عنها من هجرة واسعة جداً مشروعة وغير مشروعة صوب الدول الأوروبية, إضافة إلى تفاقم مشكلة سكان الصفائح المعدنية المعدمة في أطراف المدن أو في أحياء كاملة فيها واتساع رقعتها.
إن الحل العملي لمشكلات هذه البلدان يكمن بالأساس في إقامة المجتمع المدني الديمقراطي الذي يستند إلى الشرعية الدستورية الديمقراطية واحترام وممارسة حقوق الإنسان والاعتراف بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للأمازيغ والابتعاد عن التمييز بين السكان, وبذل الجهد من أجل ضمان العدالة الاجتماعية التي تفتقدها الغالبية العظمى من شعوبها وتحقيق التنمية الوطنية, الاقتصادية والبشرية. أي العودة الصارمة إلى إرادة ومصالح الشعب في هذه البلدان. إن مشكلة الأمازيغ قابلة للحل العقلاني والسريع إذا ما تخلى الحكام العرب أو المستعربين عن سياساتهم الشوفينية والتطرف في التعامل غير المسؤول مع حقوق الأمازيغ ومع دورهم في المجتمع. إذ أن ممارسة السياسة الراهنة, وتقسيط الحلول, كما يجري منذ سنوات, بحيث تفقد معناها الحقيقي وتثير المزيد من التعقيدات وربما النزاعات المسلحة, خاصة وأن ظروفاً أخرى متوفرة قادرة على زيادة لهيب الصراعات الحالية وتلك التي ما تزال تشتعل تحت الرماد في المغرب, وربما في تونس وليبيا أيضاً.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

شارك المحتوى

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More