أحمد عصيد يكتب عن التربية وثقافة الحوار
والخطير في هذه الظاهرة هو أنها أصبحت تنحو لدى أغلبية المتدخلين في النقاش نحو تعويض طرق الحجاج ومناهج البرهان العقلي والمنطقي والعلمي، بأساليب القذف والشتم والتشهير والإساءة إلى الأشخاص بهدف صرفهم عن التفكير وصدّهم عن التعبير عن آرائهم، ودفعهم إلى الصمت أو تغيير آرائهم، فتصبح البلاغة وسلاح اللغة وحدهما بديلا للفكر الحي والنقدي، وهو مؤشر سلبي ينذر بمزيد من التردّي والتراجع.
وقد زاد من حدّة هذه الظاهرة فضاءات الأنترنيت التي تسمح بنشر آراء وتعليقات قد لا ترقى إلى مستوى النشر، لأنها في معظمها بسبب طابعها الهجائي موقعة بأسماء مستعارة، مما يحرّر أصحابها من المسؤولية الشخصية التي تلحّ عليها الصحافة المكتوبة، حيث يتحلل الأشخاص من أي شعور باحترام الذات واحترام الآخرين فيما يكتبون، بسبب اختفائهم وراء الإسم المستعار، وعدم وجود ما يلزمهم بالكشف عن هوياتهم الحقيقية التي قد تجرّ عليهم المحاسبة والنقد. ومعلوم أنّ هذا الشعور بالمسؤولية تجاه الذات وتجاه الآخرين هو الذي يجعل أفعال الأفراد أكثر عقلانية وحرصا على التفاهم مع الغير، وعلى السمو في الفكر والممارسة.
لقد تقلّص إلى حدّ بعيد حيز الرقابة على المواقف والأفكار، وهو مؤشر إيجابي، لكن له تبعاته السلبية التي علينا التفكير في أساليب تداركها.
والحقيقة أن التفكير في أصل هذه الظاهرة التي تشمل مختلف التيارات اليمينية منها واليسارية والإسلامية والأمازيغية، والتي تزايدت في الآونة الأخيرة يجعلنا نطرح مسؤولية مختلف الأطراف التي يمكن ترتيبها على الشكل التالي:
ـ مسؤولية السلطة التي وإن سمحت نوعا ما بتوسيع نسبي لهوامش حرية التعبير، إلا أنها خلقت بسياستها اللاشعبية، وبسبب انسداد الآفاق وإجهاض المشاريع المعلنة وإفسادها وتراكم الخيبات، احتقانا كبيرا لدى الشباب ولدى جزء هام من الفئات النشيطة والمنتجة، حيث بسبب الإستياء العام أصبح مجرد إثارة موضوع من المواضيع للنقاش مدعاة لردود فعل متشنجة وعنيفة، ترمي إلى الإنتقام أو التنفيس أكثر مما تهدف إلى توضيح الرؤى واقتراح الحلول.
ـ مسؤولية الأحزاب السياسية التي تخلّت بشكل كبير عن وظيفتها التأطيرية، والتي تراجع بشكل ملحوظ دورها في التوعية والتواصل مع الفئات العريضة من المجتمع، ليس عبر القنوات الرسمية التي احتكرتها السلطة زمنا وأفسدت نظرة الناس إليها، بل عبر قنواتها الخاصة ووسائلها الحزبية وهياكلها.
ـ مسؤولية المجتمع المدني الذي جعل مهمته تقتصر على التحريض ضد الدولة والأحزاب والتيارات المختلفة، عوض اعتماد مقاربة إيجابية وانتهاج أسلوب في العمل أكثر موضوعية بهدف التشخيص الواقعي للأوضاع والخروج برؤى عملية واضحة.
ـ مسؤولية المنظومة التربوية التي ما زالت بحاجة إلى إصلاح حقيقي يسمح بإدراج عناصر النسبية والإختلاف وأخلاقيات الحوار ضمن برامجها ومقرراتها، ويحدّ من الأضرار البليغة الناتجة عن تلقيح المتمدرسين بنسب هائلة من المطلقات التي تولد أصنام الفكر والمعرفة، والتي تجعل المتمدرسين يرون العالم مقسما إلى لونين إما أبيض أو أسود، ويشعرون كما لو أن مشاكلهم تأتيهم دائما من الغير عوض النظرة النقدية إلى الذات بحثا عن أعطابها ونقائصها التي تمثل الأسباب الحقيقية لتخلفنا قبل الغير.
إن المشكل تربوي في العمق سواء بالمعنى العام أو الخاص للتربية، ما دام الهدف هو إشاعة قيم و مبادئ إيجابية ومواجهة ذهنية العنف بكل مظاهرها وأبعادها.
ولاننسى في هذا السياق مسؤولية المواقع الإلكترونية في تقييم ردود القراء و مقالاتهم، والذي لا يعتبر رقابة أو حظرا بل هو من باب الحرص على جودة مستوى النقاش، ومصداقية الموقع، وفي هذا الصدد ننوه بموقع الحوار المتمدن الذي هو أحد أكبر المواقع في العالم، والذي يقوم بحذف أي ردّ ورد فيه سب قبيح مهما كان توجهه، تاركا بدله العبارة التالية: "لم ينشر التعليق لمخالفته للقواعد".
إنّ هيمنة العنف اللفظي على فضاءاتنا هو أمر في غاية السلبية، لأنه يعاكس مشروع الإنتقال نحو الديمقراطية الذي لا يمكن أن ينجح بدون إشاعة ثقافة الحوار والإختلاف واحترام الآخر، ما دامت الديمقراطية ليست أكثر من تدبير الإختلاف بطرق سلمية، وهي صنو الحرية، بينما الإستبداد نتاج العنف، كما أنه يولد العنف حيث لا يستطيع الإستمرار إلا بواسطة الإكراه والإخضاع والزجر والتهديد والوعيد، و هي حالة ليس لنا خيار في أن نغادرها بعد أن قضينا فيها قرونا طويلة.
الكاتب: أحمد عصيد
0 التعليقات:
إرسال تعليق