الجمعة، 31 ديسمبر 2010

هل من قواسم مشتركة بين رفيق والمحروق؟ / علي بوشنه الغرياني

هل من قواسم مشتركة بين رفيق والمحروق؟ / علي بوشنه الغرياني

ؤسان

الميلاد والموت ومدينة جادو بين شاعر الوطن والاستقلال : أحمد رفيق المهدوي وبين شاعر المعاناة والتحدي : سعيد سيفاو المحروق ، قواسم مشتركة كثيرة ، سواء تعلقت هذه القواسم بنقاط تماثل وتشابه ، أو بنقاط اختلاف وتباين . ولعل القاسم الآول المشترك بينهما ، يبدو غربيا إلى حد كبير ، ويتمثل في مكان الميلاد ، فالشاعرين من مواليد جادو .
 رفيق ولد في جادو سنة 1898 ، وكذلك سيفاو فقد ولد في جادو سنة 1946 . فهل هذا القاسم المشترك ، وليد مصادفة ، هل يمكن لمدينة أو قرية صغيرة أن تنجب عملاقين كبيرين في الشعر والأدب والفكر ، في فترة زمنية متقاربة ؟ رفيق ولد في جادو وتوفي خارج الوطن ( اليونان ) سنة 1961 ، ودفن في جادو . ولكن المحروق وإن ولد في جادو ، لكنه لم يدفن فيها ! هناك تماثل في مكان الميلاد ، ولكنهم في الموت اتفقا أيضا في وجوه ولكنها اختلفا في وجوه أخرى ، وكان اختلافهما كبيرا في ذلك . أما اتفاقهما في الموت ، فهو يماثل مكان الميلاد ، فإذا كان الشاعران قد ولدا في جادو ، فإن كليهما مات وفارق الحياة ، خارج الوطن ، هل هذه مصادفة ؟؟ رفيق مات وفارق الحياة في أثينة باليونان ، أما المحروق ، فمات وفارق الحياة في صفاقس بتونس . ولكنها رغم ذلك اختلفا في الموت ، وكالن اختلافهما في ذلك كبيرا . وهذا الاختلاف يرجع في حقيقة أمره إلى أن رفيق حين توفي ، كانت في ليبيا دولة وحكومة وشعب يحترم الرجال الأفذاذ ، أمثال رفيق وأمثال المحروق . ولهذا وجد من يكرمه بوصفه شخصية وطنية ذات مكانة واحترام . بل أطلق اسمه على الشوارع ، والمدارس ، وأصدرت الحكومةالليبية طابع بريد باسمه سنة 1962 ، وكذلك أطلق اسم رفيق على أحد مدرجات الجامعة الليبية وبالتحديد كلية الآداب ، وقت أن كانت في ليبيا جامعة تعنى بالآداب والفنون والعلوم والرقي . أما المحروق ، فتوفي مغدورا به من قبل السلطة الغاشمة التي دبرت له عملية تصفية جسدية ، من طراز العمليات الاستخباراتية التي تدبرها للمناضلين ، سواء في الداخل أو في الخارج ، ولعل من اشهرها ، تلك العملية القذرة التي استهدفت اغتيال المناضل الكبير عبد الحميد البكوش في القاهرة ، وقد افشلتها السلطات المصرية . رفيق توفي وفاة طبيعية ، أما المحروق فقد قتل غدرا وغيلة . ولهذا لم يجد أحدا يقف إلى جانبه بينما كان شبه جثة هامدة ، أو كما يصف هو نفسه ” ربع كائن حي ” ، ولا وهو ميت ينقل إلى مثواه الأخير ، في مقبرة سيدي منيدر . مات المحروق أو قتل بسبب نظام تجاوز كل الحدود المعروفة في الخسة والنذالة والقبح . حتى أقاربه الأقربيين وأصدقاؤه وجيرانه اختفوا حين دفنه ، ولم يحضر أحد منهم جنازته ولم يحضر أحد منهم الوداع الأخير ، لا بسبب كراهية أو خلاف أو عداء ، ولكن بسبب الخوف من الأجهزة القمعية المتعددة الألوان والأشكال . التي تحكمت في مصائر الناس ، فكيف يتجرأ أحد من هؤلاء على ذلك ، وهم يعلمون أن النظام هو من قتله وأودى بحياته ، عن طريق عصاباته وأجهزته القمعية المنتشرة في كل مكان في البلاد . رفيق مات مرة واحدة ، أما المحروق فقد مات ألف مرة ! مات فعليا يوم أن فقد معظم أجزاء جسده بسبب الحادث المخابراتي الذي دبر له ، في ليلة من ليالي الشتاء – أو هي بالتحديد ليلة الحادي والعشرين من فبراير من سنة 1978 . وتحول بسبب هذا الحادث إلى شبه جثة هامدة ، ( كسر في العمود الفقري وكسر في الرأس وكسر في ذراع اليد اليسرى ، بل تهشير كامل ، وتهشيم آخر في الكتف والفخذ اليسرى ,, ” ، وهو ما جعل يصف حالته بأنه صار ” ربع كائن حي ” , صفحة 43 من الكتاب الأسود . ويكشف المحروق عن حقيقة هذه الفعلة الخسيسة التي قام بها النظام ، فيقول موجها كلامه للقذافي في ص 150 من الكتاب الأسود ” بعد كل هذا أكاد أكون جازما أن المداهمة هي الحل النهائي لفهم كلمتكم ” كل واحد يعرف كيف يدافع عن مصلحته ” . ويضيف قائلا له ” إن بصماتكم لا تحتاج إلى خبير ، إن لم أكن مخطئا واعتقد أنني يلست مخطئا أن علاقتكم شبيهة بالمقالة الموقعة باسم ” رئيس التحرير ” في صحيفة الأسبوع السياسي عن المغرب وعن مشرقه وعن النقاش الذي ختمتموه في العدد الثال لمقالتي بكلمة ” الآن عرفنا ما تريد ؟ ” . لم أكن مخطئا حين اقتنعت أن الحوار فخ تحته فخ … منذ النقاط الخمس ، كان يجب علي أن أغادر البلاد ، لكنني اعترف أنني مغفل وغفلتي هذه أدت بي إلى أن يتسلق كتفي كل من أراد الوصول إليكم أو كل من يعرف أن كارثتي هي من فعل السلطات العليا ..إلى أن احاصر حتى في أبنائي ومصدر رزقي ..” ولكن عصابات القذافي لم تقنع بما أصاب المحروق من مأساة إنسانية مروعة ، فهو قد فقد القدرة على الحركة وعلى …وعلى …. وأصبح أما طريح الفراش وأما جالس على كرسي متحرك ، يعاني من الألأم المبرحة والأوجاع والتي ما نفع فيها العلاج . لم يكتفوا بذلك ، بل واصلوا تعذيبه وإرهاقه عصبيا ونفسيا وفكريا . عن طريق المداهمات وعن طريق زوار الفجر وزوار المساء ـ عن طريق تلفيق التهم ، عن طريق اقتحام سكنه ، وإقلاق راحته . ولم يكتفوا بذلك !!!!!! فراحو يرتكبون أشنع الأعمال وأقذرها ، دون حرج ودون إحساس ، فهم بلا ضمير ، فقاموا باختطاف زوجته وأطفاله الصغار ونقلوهم إلى جادو . وفي مرة أخرى أودعوهم ( أي زوجته وأطفاله) إلى مستشفى المجانين – مستشفى قرقارش . كان يصفهم المحروق بأنهم ” قوادون ” ، ص 23 من الكتاب الأسود . وهذا الوصف لم يقله المحروق لي ولا لغيري ، إنما قاله لكبيرهم الذي علمهم القوادة ” . قاله للقذافي ” أن اللجان الثورية التي بدأت بمقالة من عبد الرحمن شلقم في شكل تنادي عفوي مثل تنادت جهة كذا وشكلت لجنة …هذا ليس تناديا ولا عفويا ولا بريئا ولا ثوريا . مجموعة من الأفاقيين والغلمان والطلاب الفاشلين والقوادين ” . ثم تحولت هذه المجموعة إلى لجان للتصفية ، والآن أصبحوا ثروين وأصحاب ملايين ، حان الأوان أن يعودوا إلى رياض الأطفال ، وإلا فإن الكارثة آتية ولو بعد عشرات السنيين ” . وحين أراد الشكوى والإبلاغ عن ما تعرض له وتعرضت له أسرته وأطفاله الصغار ، من جرائم ، وجد الشرطة والقضاء ، أداة في أيدي العصابة التي يطلق عليها تعبير ” اللجان الثورية ” . ص 54 من الكتاب الأسود للمحروق . ونراهم أيضا ، لا يكتفون بكل هذه الفظاعات ، فنراهم يختلقون المشكلات الجنائية والأمنية والإدارية والقضائية ، وأبرزها تلفيق التهم الباطلة ، ونصب المكائد ، لجعله يعيش في دوامة من القلق والاضطراب ، جزاء له على تحديه السافر للقائد الثائر !!! وعدم إيمانه بمبادئ ثورة الفاتح ! وفي هذا الموضع يشير المحروق إلى إن القاضي الذي استخدمه عملاء اللجان الثورية كي يزيد إلمه وتعذيبه وإرهاقه وإضاعة حقه وإغلاق باب التقاضي أمامه ، وجعل تظلماته وشكاياته مما يحدث له وهو في حالة يرثى لها ، بلا معنى ، تم تعيينه مستشار فيما يسمى ” المحكمة العليا ” كمكافأة له من اللجان الثورية لأنه باع ضميره لقاء وظيفة أو منصب . الكتاب الأسود ، ص 167 . المحروق يقول للقذافي : أنا لست أفضل من الليبين الذين قتلتهم عصاباتك الثورية في الداخل والخارج ” . ويبين الشاعر فظاعة ما يتعرض له من طغيان فيقول للطاغية “”"” إن هناك غبنا وجرائم ظل يطارد المحروق وهو على أبواب المقبرة أو البحر كما يقول ، لكنه لا يخاف لا من القبر ولا من البحر ، وهؤلاء الذين سالت دماؤهم طوال عقدين من الزمن ، وهؤلاء الذين رميت بهم لأسماك القرش ، ليسوا خير مني ولست خير منهم ، فكلنا ليبيون ….” . فمرحبا بالموت فداء لليبيا . ويوجه كلامه للقذافي قائلا ” ….إن إسرائيل وجنوب أفريقيا متهمتان بأنهما دولتان تنتهجان التمييز العنصري وامتهان حرمة الإنسان ..الخ لكن ما حصل للمحروق ولأبنائه من كوارث ومأسي فإن إسرائيل وجنوب إفريقيا تستحييان أن تفعل ما فعلتموه بي حتى بعد تصفيتي جسديا ” ؟ ص 165 من الكتاب الأسود للمحروق . هذا التحدي وهذا الموقف من المحروق بينما هو حين تراه وهو ملقى على فراشه تحسبه ” ميتا ” ومنذ مدة ، إذ يظهر لك حين تراه هيكلا عظميا .وحين تراه جالسا على كرسيه المتحرك ، تجده نصف إنسان . هذه الحالة الإنسانية القاسية لم تكن مبررا لعملاء السلطة أن يتناسوه أو يغفلوا عنه ، ويبحثوا عن آخر يليق بإرهابهم ورعبهم ، ويحتمل غدرهم ووحشيتهم . ورغم هذه الأهوال لم يستسلم المحروق ، بل ظل مؤمنا بفكرته وبمبادئه ، وهو كما كان يصف نفسه ” ربع كائن حي ” . حين مات رفيق ، نقل جثمانه إلى مثواه الأخير ، كما لو كان زعيما سياسيا كبيرا ، وهو في حقيقة الأمر كذلك . وحضر مراسم دفنه ، ممثل للملك ، وممثليين رسميين عن رؤساء المجالس النيابية والتنفيذية والوزراء ، وجاء الشعراء والأدباء والكتاب . وهو ما يليق فعلا برفيق . فهو حقا شاعر الوطن. أما حين توفي المحروق ، فلم تكن في ليبيا دولة ولا مجالس نيابية ولا تنفيذية ، ولا وزراء ولا أدباء ولا شعراء ولا مفكرين ، بل يوجد فقط كما يقول هو نفسه ” مجموعة من القوادين الذين يحتكرون مقاليد الأمور في البلاد مقابل قوادتهم ” . ويصرح المحروق قائلا ” أنني مستعد ان اكتب كتاب في اسبوع ، لكنني لا أقوى بل أكره أمثال الكتابات الشاكية الباكية لآنها تشعرني بأنني أمارس نفس أعمال القوادة التي يستعملها عملاء اللجان الثورية .والذين يمارسون أيضا الأعمال الفدائية كما تسمون تصفية الليبيين سواء في الداخل أو في الخارج ” . لو كنت كما كنت قبل تصفيتي لكنت قد علقت هؤلاء الأوباش من خصاهم . لكن ما الحيلة الآن ؟ المحروق ، الكتاب الأسود ، ص 146 . ثم يتعرض في موضع آخر لما يسمى ب” الوثيقة الكبرى لحقوق بالإنسان ” فيقول أنها ” لا تتعلق بأي شخص ، ولا تعني إلا شخص واحد هو القذافي ، أما ماعداه من الليبيين ، فهم حشرات ” . ص 147 . كل هذا الذي تعرض له المحروق ودفع ثمنا باهظا ، دفع حياته ، كان بسبب إيمانه بما يعتقد وبما يراه حقا ، إي بسبب الفكر والرأي ، فالمحروق لم يعتد على أحد ـ ولم يسرق أحدا ولم يقتل أحدا ، كل ما نسب إليه أنه يؤمن بقضية معينة يراها عادلة ، ولكن ذلك يخالف فكر القذافي ، ولا يجوز لأحد أن يخالف هذا الفكر ، فالواجب على الجميع أن يكونوا خانعين !! وفي هذا المعنى يقول المحروق للقذافي ” لم يبق سوى أن تأخذوا جنسيتكم الليبية وتسقطوها علنا … بل أن كلمة ” ليبي ” أصبحت بسبكم لعنة وسبة وعارا ” . ثم يعلنها صرخة مدوية في وجه الطاغية ” ….. هبوا وأضرموا النيران في الساحة الخضراء وأرٍموا بجثتي ، فلا أخشى نيرانكم ولا أخشى أحقادكم …

علي أبوشنه الغرياني

0 التعليقات:

إرسال تعليق

شارك المحتوى

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More